سورة الزمر - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزمر)


        


{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما بالغ في تقرير البيانات الدالة على وجوب الإقبال على طاعة الله تعالى ووجوب الإعراض عن الدنيا بين بعد ذلك أن الانتفاع بهذه البيانات لا يكمل إلا إذا شرح الله الصدور ونور القلوب فقال: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام فَهُوَ على نُورٍ مّن رَّبّهِ}.
واعلم أنا بالغنا في سورة الأنعام في تفسير قوله: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام} [الأنعام: 125] في تفسير شرح الصدر وفي تفسير الهداية، ولا بأس بإعادة كلام قليل هاهنا، فنقول إنه تعالى خلق جواهر النفوس مختلفة بالماهية فبعضها خيرة نورانية شريفة مائلة إلى الإلهيات عظيمة الرغبة في الاتصال بالروحانيات، وبعضها نذلة كدرة خسيسة مائلة إلى الجسمانيات وفي هذا التفاوت أمر حاصل في جواهر النفوس البشرية، والاستقراء يدل على أن الأمر كذلك، إذا عرفت هذا فنقول المراد بشرح الصدر هو ذلك الاستعداد الشديد الموجود في فطرة النفس، وإذا كان ذلك الاستعداد الشديد حاصلاً كفى خروج تلك الحالة من القوة إلى الفعل بأدنى سبب، مثل الكبريت الذي يشتعل بأدنى نار، أما إذا كانت النفس بعيدة عن قبول هذه الجلايا القدسية والأحوال الروحانية، بل كانت مستغرقة في طلب الجسمانيات قليلة التأثر عن الأحوال المناسبة للإلهيات فكانت قاسية كدرة ظلمانية، وكلما كان إيراد الدلائل اليقينية والبراهين الباهرة عليها أكثر كانت قسوتها وظلمتها أقل.
إذا عرفت هذه القاعدة فنقول.
أما شرح الصدر فهو ما ذكرناه، وأما النور فهو عبارة عن الهداية والمعرفة، وما لم يحصل شرح الصدر أولا لم يحصل النور ثانياً، وإذا كان الحاصل هو القوة النفسانية لم يحصل الانتفاع ألبتة بسماع الدلائل، وربما صار سماع الدلائل سبباً لزيادة القسوة ولشدة النفرة فهذه أصول يقينية يجب أن تكون معلومة عند الإنسان حتى يمكنه الوقوف على معاني هذه الآيات، أما استدلال أصحابنا في مسألة الجبر والقدر وكلام الخصوم عليه فقد تقدم هناك، والله أعلم.
المسألة الثانية: من محذوف الخبر كما في قوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} [الزمر: 9] والتقدير: أفمن شرح الله صدره للإسلام فاهتدى كمن طبع على قلبه فلم يهتد لقسوته، والجواب متروك لأن الكلام المذكور دل عليه وهو قوله تعالى: {فَوَيْلٌ للقاسية قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ الله}.
المسألة الثالثة: قوله: {فَوَيْلٌ للقاسية قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ الله} فيه سؤال، وهو أن ذكر الله سبب لحصول النور والهداية وزيادة الاطمئنان كما قال: {أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [الرعد: 28] فكيف جعله في هذه الآية سبباً لحصول قسوة القلب، والجواب أن نقول إن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر كدرة العنصر بعيدة عن مناسبة الروحانيات شديدة الميل إلى الطبائع البهيمية والأخلاق الذميمة، فإن سماعها لذكر الله يزيدها قسوة وكدورة، وتقرير هذا الكلام بالأمثلة فإن الفاعل الواحد تختلف أفعاله بحسب اختلاف القوابل كنور الشمس يسود وجه القصار ويبيض ثوبه، وحرارة الشمس تلين الشمع وتعقد الملح، وقد نرى إنساناً واحداً يذكر كلاماً واحداً في مجلس واحد فيستطيبه واحد ويستكرهه غيره، وما ذاك إلا ما ذكرناه من اختلاف جواهر النفوس، ومن اختلاف أحوال تلك النفوس، ولما نزل قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ} وكان قد حضر هناك عمر بن الخطاب وإنسان آخر فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى: {ثم أنشأناه خلقاً آخر} قال كل واحد منهم: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 12 14] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب فهكذا أنزلت فازداد عمر إيماناً على إيمان وازداد ذلك الإنسان كفراً على كفر، إذا عرفت هذا لم يبعد أيضاً أن يكون ذكر الله يوجب النور والهداية والاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانية، ويوجب القسوة والبعد عن الحق في النفوس الخبيثة الشيطانية، إذا عرفت هذا فنقول إن رأس الأدوية التي تفيد الصحة الروحانية ورئيسها هو ذكر الله تعالى، فإذا اتفق لبعض النفوس أن صار ذكر الله تعالى سبباً لازدياد مرضها كان مرض تلك النفس مرضاً لا يرجى زواله ولا يتوقع علاجه وكانت في نهاية الشر والرداءة، فلهذا المعنى قال تعالى: {فَوَيْلٌ للقاسية قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ الله أُوْلَئِكَ فِي ضلال مُّبِينٍ} وهذا كلام كامل محقق، ولما بين تعالى ذلك أردفه بما يدل على أن القرآن سبب لحصول النور والشفاء والهداية وزيادة الاطمئنان، والمقصود منه بيان أن القرآن لما كان موصوفاً بهذه الصفات، ثم إنه في حق ذلك الإنسان صار سبباً لمزيد القسوة دل ذلك على أن جوهر تلك النفس قد بلغ في الرداءة والخساسة إلى أقصى الغايات، فنقول إنه تعالى وصف القرآن بأنواع من صفات الكمال.
الصفة الأولى: قوله تعالى: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: القائلون بحدوث القرآن احتجوا بهذه الآية من وجوه:
الأول: أنه تعالى وصفه بكونه حديثاً في هذه الآيات وفي آيات أخرى منها قوله تعالى: {فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ} [الطور: 34] ومنها قوله تعالى: {أفبهذا الحديث أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ} [الواقعة: 81] والحديث لابد وأن يكون حادثاً، قالوا بل الحديث أقوى في الدلالة على الحدوث من الحادث لأنه يصح أن يقال هذا حديث وليس بعتيق، وهذا عتيق وليس بحادث، فثبت أن الحديث هو الذي يكون قريب العهد بالحديث، وسمي الحديث حديثاً لأنه مؤلف من الحروف والكلمات، وتلك الحروف والكلمات تحدث حالا فحالا وساعة فساعة، فهذا تمام تقرير هذا الوجه.
أما الوجه الثاني: في بيان استدلال القوم أن قالوا: إنه تعالى وصفه بأنه نزله والمنزل يكون في محل تصرف الغير. وما يكون كذلك فهو محدث وحادث.
وأما الوجه الثالث: في بيان استدلال القوم أن قالوا: إن قوله أحسن الحديث يقتضي أن يكون هو من جنس سائر الأحاديث كما أن قوله زيد أفضل الإخوة يقتضي أن يكون زيد مشاركاً لأولئك الأقوام في صفة الأخوة ويكون من جنسهم، فثبت أن القرآن من جنس سائر الأحاديث، ولما كان سائر الأحاديث حادثة وجب أيضاً أن يكون القرآن حادثاً.
أما الوجه الرابع: في الاستدلال أن قالوا: إنه تعالى وصفه بكونه كتاباً والكتاب مشتق من الكتبة وهي الاجتماع، وهذا يدل على أنه مجموع جامع ومحل تصرف متصرف. وذلك يدل على كونه محدثاً والجواب: أن نقول نحمل هذا الدليل على الكلام المؤلف من الحروف والأصوات والألفاظ والعبارات، وذلك الكلام عندنا محدث مخلوق، والله أعلم.
المسألة الثانية: كون القرآن أحسن الحديث، إما أن يكون أحسن الحديث بحسب لفظه أو بحسب معناه.
القسم الأول: أن يكون أحسن الحديث بحسب لفظه وذلك من وجهين:
الأول: أن يكون ذلك الحسن لأجل الفصاحة والجزالة الثاني: أن يكون بحسب النظم في الأسلوب، وذلك لأن القرآن ليس من جنس الشعر، ولا من جنس الخطب. ولا من جنس الرسائل، بل هو نوع يخالف الكل، مع أن كل ذي طبع سليم يستطيبه ويستلذه.
القسم الثاني: أن يكون كونه أحسن الحديث لأجل المعنى، وفيه وجوه:
الأول: أنه كتاب منزه عن التناقض، كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82] ومثل هذا الكتاب إذا خلا عن التناقض كان ذلك من المعجزات الوجه الثاني: اشتماله على الغيوب الكثيرة في الماضي والمستقبل الوجه الثالث: أن العلوم الموجودة فيه كثيرة جداً.
وضبط هذه العلوم أن نقول: العلوم النافعة هي ما ذكره الله في كتابه في قوله: {والمؤمنون كُلٌّ ءامَنَ بالله وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير} [البقرة: 285] فهذا أحسن ضبط يمكن ذكره للعلوم النافعة.
أما القسم الأول: وهو الإيمان بالله، فاعلم أنه يشتمل على خمسة أقسام: معرفة الذات والصفات والأفعال والأحكام والأسماء.
أما معرفة الذات فهي أن يعلم وجود الله وقدمه وبقاءه.
وأما معرفة الصفات فهي نوعان:
أحدهما: ما يجب تنزيهه عنه، وهو كونه جوهراً ومركباً من الأعضاء والأجزاء وكونه مختصاً بحيز وجهة، ويجب أن يعلم أن الألفاظ الدالة على التنزيه أربعة: ليس ولم وما ولا، وهذه الأربعة المذكورة، مذكورة في كتاب الله تعالى لبيان التنزيه.
أما كلمة ليس، فقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء} [الشورى: 11] وأما كلمة لم، فقوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 3، 4] وأما كلمة ما، فقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم: 64]، {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} [مريم: 35] وأما كلمة لا، فقوله تعالى: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} [البقرة: 255]، {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} [الأنعام: 14]، {وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون: 88]، وقوله في سبعة وثلاثين موضعاً من القرآن {لاَ إله إِلاَّ الله} [محمد: 19].
وأما النوع الثاني: وهي الصفات التي يجب كونه موصوفاً بها من القرآن فأولها العلم بالله، والعلم بكونه محدثاً خالقاً، قال تعالى: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ * السموات والأرض} [الأنعام: 1].
وثانيها: العلم بكونه قادراً، قال تعالى في أول سورة القيامة {بلى قادرين على أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ} [القيامة: 4] وقال في آخر هذه السورة {أَلَيْسَ ذَلِكَ بقادر على أَن يُحْيِىَ الموتى} [القيامة: 40].
وثالثها: العلم بكونه تعالى عالماً، قال تعالى: {هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغيب والشهادة} [الحشر: 22].
ورابعها: العلم بكونه عالماً بكل المعلومات، قال تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 59] وقوله تعالى: {الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى} [الرعد: 8].
وخامسها: العلم بكونه حياً، قال تعالى: {هُوَ الحى لاَ إله إِلاَّ هُوَ فادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [غافر: 65].
وسادسها: العلم بكونه مريداً، قال الله تعالى: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام} [الأنعام: 125].
وسابعها: كونه سميعاً بصيراً، قال تعالى: {وَهُوَ السميع البصير} [الشورى: 11] وقال تعالى: {إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وأرى} [طه: 46].
وثامنها: كونه متكلما، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كلمات الله} [لقمان: 27].
وتاسعها: كونه أمراً، قال تعالى: {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [الروم: 4].
وعاشرها: كونه رحماناً رحيماً مالكاً، قال تعالى: {الرحمن الرحيم * مالك يَوْمِ الدين} [الفاتحة: 3، 4] فهذا ما يتعلق بمعرفة الصفات التي يجب اتصافه بها.
وأما القسم الثالث: وهو الأفعال، فاعلم أن الأفعال إما أرواح وإما أجسام.
أما الأرواح فلا سبيل للوقوف عليها إلا للقليل، كما قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31] وأما الأجسام، فهي إما العالم الأعلى وإما العالم الأسفل.
أما العالم الأعلى فالبحث فيه من وجوه:
أحدها: البحث عن أحوال السموات.
وثانيها: البحث عن أحوال الشمس والقمر كما قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش يُغْشِى الليل النهار يطلبهُ حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره} [الأعراف: 54].
وثالثها: البحث عن أحوال الأضواء، قال الله تعالى: {الله نُورُ السموات والأرض} [النور: 35] وقال تعالى: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَاء والقمر نُوراً} [يونس: 5].
ورابعها: البحث عن أحوال الظلال، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إلى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً} [الفرقان: 45].
وخامسها: اختلاف الليل والنهار، قال الله تعالى: {يُكَوّرُ اليل عَلَى النهار وَيُكَوّرُ النهار عَلَى اليل} [الزمر: 5].
وسادسها: منافع الكواكب، قال تعالى: {وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظلمات البر والبحر} [الأنعام: 97].
وسابعها: صفات الجنة، قال تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض} [الحديد: 21].
وثامنها: صفات النار، قال تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْء مَّقْسُومٌ} [الحجر: 44].
وتاسعها: صفة العرش، قال تعالى: {الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ} [غافر: 7].
وعاشرها: صفة الكرسي، قال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السموات والأرض} [البقرة: 255] وحادي عشرها: صفة اللوح والقلم.
أما اللوح، فقوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} [البروج: 21، 22] وأما القلم، فقوله تعالى: {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1].
وأما شرح أحوال العالم الأسفل فأولها: الأرض، وقد وصفها بصفات كثيرة إحداها: كونه مهداً، قال تعالى: {الذى جَعَلَ لَكُمُ الارض مَهْداً} [طه: 53].
وثانيها: كونه مهاداً، قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مهادا} [النبأ: 6].
وثالثها: كونه كفاتاً، قال تعالى: {كِفَاتاً * أَحْيَاء وأمواتا} [المرسلات: 24، 25].
ورابعها: الذلول، قال تعالى: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً} [الملك: 15].
وخامسها: كونه بساطاً، قال تعالى: {والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً * لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} [نوح: 19، 20] والكلام فيه طويل.
وثانيها: البحر، قال تعالى: {وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا} [النحل: 14].
وثالثها: الهواء والرياح.
قال تعالى: {وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57] وقال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ} [الحجر: 22].
ورابعها: الآثار العلوية كالرعد والبرق، قال تعالى: {وَيُسَبّحُ الرعد بِحَمْدِهِ والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد: 13] وقال تعالى: {فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} [النور: 43] ومن هذا الباب ذكر الصواعق والأمطار وتراكم السحاب.
وخامسها: أحوال الأشجار والثمار وأنواعها وأصنافها.
وسادسها: أحوال الحيوانات، قال تعالى: {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ} [البقرة: 164] وقال: {والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ} [النحل: 5].
وسابعها: عجائب تكوين الإنسان في أول الخلقة، قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ} [المؤمنون: 12].
وثامنها: العجائب في سمعه وبصره ولسانه وعقله وفهمه.
وتاسعها: تواريخ الأنبياء والملوك وأحوال الناس من أول خلق العالم إلى آخر قيام القيامة.
وعاشرها ذكر أحوال الناس عند الموت وبعد الموت، وكيفية البعث والقيامة، وشرح أحوال السعداء والأشقياء، فقد أشرنا إلى عشرة أنواع من العلوم في عالم السموات، وإلى عشرة أخرى في عالم العناصر، والقرآن مشتمل على شرح هذه الأنواع من العلوم العالية الرفيعة.
وأما القسم الرابع: وهو شرح أحكام الله تعالى وتكاليفه، فنقول هذه التكاليف إما أن تحصل في أعمال القلوب أو في أعمال الجوارح.
أما القسم الأول: فهو المسمى بعلم الأخلاق وبيان تمييز الأخلاق الفاضلة والأخلاق الفاسدة والقرآن يشتمل على كل ما لابد منه في هذا الباب، قال الله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان وَإِيتَآء ذِى القربى وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغى} [النحل: 90]، وقال: {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين} [الأعراف: 199].
وأما الثاني: فهو التكاليف الحاصلة في أعمال الجوارح وهو المسمى بعلم الفقه والقرآن مشتمل على جملة أصول هذا العلم على أكمل الوجوه.
وأما القسم الخامس: وهو معرفة أسماء الله تعالى فهو مذكور في قوله تعالى: {وَللَّهِ الأسماء الحسنى فادعوه بِهَا} [الأعراف: 180] فهذا كله يتعلق بمعرفة الله.
وأما القسم الثاني: من الأصول المعتبرة في الإيمان الإقرار بالملائكة كما قال تعالى: {والمؤمنون كُلٌّ ءامَنَ بالله وَمَلَئِكَتِهِ} [البقرة: 285] والقرآن يشتمل على شرح صفاتهم تارة على سبيل الإجمال وأخرى على طريق التفصيل، أما بالإجمال فقوله: {وَمَلَئِكَتُهُ} وأما بالتفصيل فمنها ما يدل على كونهم رسل الله قال تعالى: {جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً} [فاطر: 1] ومنها أنها مدبرات لهذا العالم، قال تعالى: {فالمقسمات أَمْراً} [الذاريات: 4] {فالمدبرات أَمْراً} [النازعات: 5] وقال تعالى: {والصافات صَفَّا} [الصافات: 1] ومنها حملة العرش قال: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثمانية} [الحاقة: 17] ومنها الحافون حول العرش قال: {وَتَرَى الملائكة حَافّينَ مِنْ حَوْلِ العرش} [الزمر: 75] ومنها خزنة النار قال تعالى: {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ} [التحريم: 6] ومنها الكرام الكاتبون قال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين * كِرَاماً كاتبين} [الانفطار: 10، 11] ومنها المعقبات قال تعالى: {لَهُ معقبات مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} [الرعد: 11] وقد يتصل بأحوال الملائكة أحوال الجن والشياطين.
وأما القسم الثالث: من الأصول المعتبرة في الإيمان معرفة الكتب والقرآن يشتمل على شرح أحوال كتاب آدم عليه السلام قال تعالى: {فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة: 37] ومنها أحوال صحف إبراهيم عليه السلام قال تعالى: {وَإِذِ ابتلى إبراهيم رَبُّهُ بكلمات فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] ومنها أحوال التوراة والإنجيل والزبور.
وأما القسم الرابع: من الأصول المعتبرة في الإيمان معرفة الرسل والله تعالى قد شرح أحوال البعض وأبهم أحوال الباقين قال: {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78].
القسم الخامس: ما يتعلق بأحوال المكلفين وهي على نوعين الأول: أن يقروا بوجوب هذه التكاليف عليهم وهو المراد من قوله: {وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}.
الثاني: أن يعترفوا بصدور التقصير عنهم في تلك الأعمال ثم طلبوا المغفرة وهو المراد من قوله: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} ثم لما كانت مقادير رؤية التقصير في مواقف العبودية بحسب المكاشفات في مطالعة عزة الربوبية أكثر، كانت المكاشفات في تقصير العبودية أكثر وكان قوله: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} أكثر.
القسم السادس: معرفة المعاد والبعث والقيامة وهو المراد من قوله: {وَإِلَيْكَ المصير} [البقرة: 285] وهذا هو الإشارة إلى معرفة المطالب المهمة في طلب الدين، والقرآن بحر لا نهاية له في تقرير هذه المطالب وتعريفها وشرحها ولا ترى في مشارق الأرض ومغاربها كتاباً يشتمل على جملة هذه العلوم كما يشتمل القرآن عليها. ومن تأمل في هذا التفسير علم أنا لم نذكر من بحار فضائل القرآن إلا قطرة، ولما كان الأمر على هذه الجملة، لا جرم مدح الله عز وجل القرآن فقال تعالى: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث}، والله أعلم.
الصفة الثانية: من صفات القرآن قوله تعالى: {كتابا متشابها} أما الكتاب فقد فسرناه في قوله تعالى: {ذلك الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] وأما كونه متشابهاً فاعلم أن هذه الآية تدل على أن القرآن كله متشابه.
وقوله: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيات محكمات هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ متشابهات} [آل عمران: 7] يدل على كون البعض متشابهاً دون البعض.
وأما كونه كله متشابهاً كما في هذه الآية، فقال ابن عباس: معناه أنه يشبه بعضه بعضاً، وأقول هذا التشابه يحصل في أمور أحدها: أن الكاتب البليغ إذا كتب كتاباً طويلاً، فإنه يكون بعض كلماته فصيحاً، ويكون البعض غير فصيح، والقرآن يخالف ذلك فإنه فصيح كامل الفصاحة بجميع أجزائه.
وثانيها: أن الفصيح إذا كتب كتاباً في واقعة بألفاظ فصيحة فلو كتب كتاباً آخر في غير تلك الواقعة كان الغالب أن كلامه في الكتاب الثاني غير كلامه في الكتاب الأول، والله تعالى حكى قصة موسى عليه السلام في مواضع كثيرة من القرآن وكلها متساوية متشابهة في الفصاحة.
وثالثها: أن كل ما فيه من الآيات والبيانات فإنه يقوي بعضها بعضاً ويؤكد بعضها بعضاً.
ورابعها: أن هذه الأنواع الكثيرة من العلوم التي عددناها متشابهة متشاركة في أن المقصود منها بأسرها الدعوة إلى الدين وتقرير عظمة الله، ولذلك فإنك لا ترى قصة من القصص إلا ويكون محصلها المقصود الذي ذكرناه، فهذا هو المراد من كونه متشابهاً، والله الهادي.
الصفة الثالثة: من صفات القرآن كونه مثَاني وقد بالغنا في تفسير هذه اللفظة عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ ءاتيناك سَبْعًا مّنَ المثاني} [الحجر: 87] وبالجملة فأكثر الأشياء المذكورة وقعت زوجين زوجين مثل: الأمر والنهي، والعام والخاص، والمجمل والمفصل، وأحوال السموات والأرض، والجنة والنار، والظلمة والضوء، واللوح والقلم، والملائكة والشياطين، والعرش والكرسي، والوعد والوعيد، والرجاء والخوف، والمقصود منه بيان أن كل ما سوى الحق زوج ويدل على أن كل شيء مبتلى بضده ونقيضه وأن الفرد الأحد الحق هو الله سبحانه.
الصفة الرابعة: من صفات القرآن قوله: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: معنى {تَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ} تأخذهم قشعريرة وهي تغير يحدث في جلد الإنسان عند الوجل والخوف، قال المفسرون: والمعنى أنهم عند سماع آيات الرحمة والإحسان يحصل لهم الفرح فتلين قلوبهم إلى ذكر الله، وأقول إن المحققين من العارفين قالوا: السائرون في مبدأ إجلال الله إن نظروا إلى عالم الجلال طاشوا، وإن لاح لهم أثر من عالم الجمال عاشوا، ويجب علينا أن نذكر في هذا الباب مزيد شرح وتقرير، فنقول الإنسان إذا تأمل في الدلائل الدالة على أنه يجب تنزيه الله عن التحيز والجهة. فهنا يقشعر جلده، لأن إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارج ولا متصل بالعالم ولا منفصل عن العالم، مما يصعب تصوره فهاهنا تقشعر الجلود، أما إذا تأمل في الدلائل الدالة على أنه يجب أن يكون فرداً أحداً، وثبت أن كل متحيز فهو منقسم فهاهنا يلين جلده وقلبه إلى ذكر الله. وأيضاً إذا أراد أن يحيط عقله بمعنى الأزل فيتقدم في ذهنه بمقدار ألف ألف سنة ثم يتقدم أيضاً بحسب كل لحظة من لحظات تلك المدة ألف ألف سنة، ولا يزال يحتال ويتقدم ويتخيل في الذهن، فإذا بالغ وتوغل وظن أنه استحضر معنى الأزل قال العقل هذا ليس بشيء، لأن كل ما استحضرته في فهو متناه والأزل هو الوجود المتقدم على هذه المدة المتناهية، فهاهنا يتحير العقل ويقشعر الجلد، وأما إذا ترك هذا الاعتبار وقال هاهنا موجود والموجود إما واجب وإما ممكن، فإن كان واجباً فهو دائماً منزه عن الأول والآخر وإن كان ممكناً فهو محتاج إلى الواجب فيكون أزلياً أبدياً، فإذا اعتبر العقل فهم معنى الأزلية فهاهنا يلين جلده وقلبه إلى ذكر الله، فثبت أن المقامين المذكورين في الآية لا يجب قصرهما على سماع آية العذاب وآية الرحمة، بل ذاك أول تلك المراتب وبعده مراتب لا حد لها ولا حصر في حصول تلك الحالتين المذكورتين.
المسألة الثانية: روى الواحدي في البسيط عن قتادة أنه قال: القرآن دل على أن أولياء الله موصوفون بأنهم عند المكاشفات والمشاهدات، تارة تقشعر جلودهم وأخرى تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله. وليس فيه أن عقولهم تزول وأن أعضاءهم تضطرب، فدل هذا على أن تلك الأحوال لو حصلت لكانت من الشيطان، وأقول هاهنا بحث آخر وهو أن الشيخ أبا حامد الغزالي أورد مسألة في كتاب إحياء علوم الدين، وهي أنا نرى كثيراً من الناس يظهر عليه الوجد الشديد التام عند سماع الأبيات المشتملة على شرح الوصل والهجر، وعند سماع الآيات لا يظهر عليه شيء من هذه الأحوال، ثم إنه سلم هذا المعنى وذكر العذر فيه من وجوه كثيرة، وأنا أقول: إني خلقت محروماً عن هذا المعنى، فإني كلما تأملت في أسرار القرآن اقشعر جلدي وقف على شعري وحصلت في قلبي دهشة وروعة، وكلما سمعت تلك الأشعار غلب الهزل علي وما وجدت ألبتة في نفسي منها أثراً، وأظن أن المنهج القويم والصراط المستقيم هو هذا، وبيانه من وجوه:
الأول: أن تلك الأشعار كلمات مشتملة على وصل وهجر وبغض وحب تليق بالخلق، وإثباته في حق الله تعالى كفر، وأما الانتقال من تلك الأحوال إلى معان لائقة بجلال الله فلا يصل إليها إلا العلماء الراسخون في العلم، وأما المعاني التي يشتمل عليها القرآن فهي أحوال لائقة بجلال الله، فمن وقف عليها عظم الوله في قلبه، فإن من كان عنده نور الإيمان وجب أن يعظم اضطرابه عند سماع قوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 59] إلى آخر الآية والثاني: وهو أني سمعت بعض المشايخ قال كما أن الكلام له أثر فكذلك صدور ذلك الكلام من القائل المعين له أثر، لأن قوة نفس القائل تعين على نفاذ الكلام في الروح، والقائل في القرآن هنا هو الله بواسطة جبريل بتبليغ الرسول المعصوم، والقائل هناك شاعر كذاب مملوء من الشهوة وداعية الفجور والثالث: أن مدار القرآن على الدعوة إلى الحق قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ * صراط الله الذي لَهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} [الشورى: 52، 53] وأما الشعر فمداره على الباطل قال تعالى: {والشعراء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 224، 226] فهذه الوجوه الثلاثة فروق ظاهرة، وأما ما يتعلق بالوجدان من النفس فإن كل أحد إنما يخبر عما يجده من نفسه والذي وجدته من النفس والعقل ما ذكرته، والله أعلم.
المسألة الثالثة: في بيان ما بقي من المشكلات في هذه الآية ونذكرها في معرض السؤال والجواب.
السؤال الأول: كيف تركيب لفظ القشعريرة الجواب: قال صاحب الكشاف تركيبه من حروف التقشع وهو الأديم اليابس مضموماً إليها حرف رابع وهو الراء ليكون رباعياً ودالاً على معنى زائد يقال: اقشعر جلده من الخوف وقف شعره، وذلك مثل في شدة الخوف.
السؤال الثاني: كيف قال: {تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله} وما الوجه في تعديه بحرف إلى؟ والجواب: التقدير تلين جلودهم وقلوبهم حال وصولها إلى حضرة الله وهو لا يحس بالإدراك.
السؤال الثالث: لم قال: {إلى ذكر الله} ولم يقل إلى ذكر رحمة الله؟ والجواب: أن من أحب الله لأجل رحمته فهو ما أحب الله، وإنما أحب شيئاً غيره، وأما من أحب الله لا لشيء سواه فهذا هو المحب المحق وهو الدرجة العالية، فلهذا السبب لم يقل ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر رحمة الله بل قال إلى ذكر الله، وقد بين الله تعالى هذا المعنى في قوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام} [الأنعام: 125] وفي قوله: {أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [الرعد: 28] وأيضاً قال لأمة موسى: {يابنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِيَ التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40] وقال أيضاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم: {فاذكرونى أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152].
السؤال الرابع: لم قال في جانب الخوف قشعريرة الجلود فقط، وفي جانب الرجاء لين الجلود والقلوب معاً؟ والجواب: لأن المكاشفة في مقام الرجاء أكمل منها في مقام الخوف، لأن الخير مطلوب بالذات والشر مطلوب بالعرض ومحل المكاشفات هو القلوب والأرواح، والله أعلم.
ثم إنه تعالى لما وصف القرآن بهذه الصفات قال: {ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} فقوله: {ذلك} إشارة إلى الكتاب وهو هدى الله يهدي به من يشاء من عباده وهو الذي شرح صدره أولاً لقبول هذه الهداية {وَمَن يُضْلِلِ الله} أي من جعل قلبه قاسياً مظلماً بليد الفهم منافياً لقبول هذه الهداية {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} واستدلال أصحابنا بهذه الآية وسؤالات المعتزلة وجوابات أصحابنا عين ما تقدم في قوله: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام}.
أما قوله تعالى: {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوء العذاب يَوْمَ القيامة} فاعلم أنه تعالى حكم على القاسية قلوبهم بحكم في الدنيا وبحكم في الآخرة، أما حكمهم في الدنيا فهو الضلال التام كما قال: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد: 33] وأما حكمهم في الآخرة فهو العذاب الشديد وهو المراد من قوله: {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوء العذاب يَوْمَ القيامة} وتقريره أن أشرف الأعضاء هو الوجه لأنه محل الحسن والصباحة، وهو أيضاً صومعة الحواس، وإنما يتميز بعض الناس عن بعض بسبب الوجه، وأثر السعادة والشقاوة لا يظهر إلا في الوجه قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضاحكة مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الكفرة الفجرة} [عبس: 38 42] ويقال لمقدم القوم يا وجه العرب، ويقال للطريق الدال على كنه حال الشيء وجه كذا هو كذا، فثبت بما ذكرنا أن أشرف الأعضاء هو الوجه، فإذا وقع الإنسان في نوع من أنواع العذاب فإنه يجعل يده وقاية لوجهه وفداءً له، وإذا عرفت هذا فنقول: إذا كان القادر على الاتقاء يجعل كل ما سوى الوجه فداء للوجه لا جرم حسن جعل الاتقاء بالوجه كناية عن العجز عن الاتقاء، ونظيره قول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب
أي لا عيب فيهم إلا هذا وهو ليس بعيب فلا عيب فيهم إذن بوجه من الوجوه، فكذا هاهنا لا يقدرون على الاتقاء بوجه من الوجوه إلا بالوجه وهذا ليس باتقاء، فلا قدرة لهم على الاتقاء ألبتة، ويقال أيضاً إن الذي يلقى في النار يلقى مغلولة يداه إلى عنقه ولا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه، إذا عرفت هذا فنقول: جوابه محذوف وتقديره أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة كمن هو آمن من العذاب فحذف الخبر كما حذف في نظائره، وسوء العذاب شدته.
ثم قال تعالى: {وَقِيلَ لِلظَّلِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} ولما بين الله تعالى كيفية عذاب القاسية قلوبهم في الآخرة بين أيضاً كيفية وقوعهم في العذاب في الدنيا فقال: {كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فأتاهم العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} وهذا تنبيه على حال هؤلاء لأن الفاء في قوله: {فأتاهم العذاب} تدل على أنهم إنما أتاهم العذاب بسبب التكذيب، فإذا كان التكذيب حاصلاً هاهنا لزم حصول العذاب استدلالاً بالعلة على المعلول، وقوله: {مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} أي من الجهة التي لا يحسبون ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها، بينما هم آمنون إذ أتاهم العذاب من الجهة التي توقعوا الأمن منها، ولما بين أنه أتاهم العذاب في الدنيا بين أيضاً أنه أتاهم الخزي وهو الذل والصغار والهوان، والفائدة في ذكر هذا القيد أن العذاب التام هو أن يحصل فيه الألم مقروناً بالهوان والذل.
ثم قال: {وَلَعَذَابُ الأخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} يعني أن أولئك وإن نزل عليهم العذاب والخزي كما تقدم ذكره، فالعذاب المدخر لهم في يوم القيامة أكبر وأعظم من ذلك الذي وقع. والمقصود من كل ذلك التخويف والترهيب، فلما ذكر الله تعالى هذه الفوائد المتكاثرة والنفائس المتوافرة في هذه المطالب، بين تعالى أنه بلغت هذه البيانات إلى حد الكمال والتمام فقال: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرءان مِن كُلّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} والمقصود ظاهر، وقالت المعتزلة دلت الآية على أن أفعال الله وأحكامه معللة، ودلت أيضاً على أنه يريد الإيمان والمعرفة من الكل لأن قوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ} مشعر بالتعليل، وقوله في آخر الآية: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} مشعر بالتعليل أيضاً، ومشعر بأن المقصود من ضرب هذه الأمثال إرادة حصول التذكر والعلم، ولما كانت هذه البيانات النافعة والبينات الباهرة موجودة في القرآن، لا جرم وصف القرآن بالمدح والثناء، فقال: {قُرْءاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: احتج القائلون بحدوث القرآن بهذه الآية من وجوه:
الأول: أن قوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرءان مِن كُلّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يدل على أنه تعالى إنما ذكر هذه الأمثال ليحصل لهم التذكر، والشيء الذي يؤتى به لغرض آخر يكون محدثاً، فإن القديم هو الذي يكون موجوداً في الأزل، وهذا يمتنع أن يقال إنه إنما أتى به لغرض كذا وكذا، والثاني: أنه وصفه بكونه عربياً وإنما كان عربياً لأن هذه الألفاظ إنما صارت دالة على هذه المعاني بوضع العرب وباصطلاحهم، وما كان حصوله بسبب أوضاع العرب واصطلاحاتهم كان مخلوقاً محدثاً الثالث: أنه وصفه بكونه قرآناً والقرآن عبارة عن القراءة والقراءة مصدر والمصدر هو المفعول المطلق فكان فعلاً ومفعولاً والجواب: أنا نحمل كل هذه الوجوه على الحروف والأصوات وهي حادثة ومحدثة.
المسألة الثانية: قال الزجاج قوله: {عَرَبِيّاً} منصوب على الحال والمعنى ضربنا للناس في هذا القرآن في حال عربيته وبيانه ويجوز أن ينتصب على المدح.
المسألة الثالثة: أنه تعالى وصفه بصفات ثلاثة أولها: كونه قرآناً، والمراد كونه متلواً في المحاريب إلى قيام القيامة، كما قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} [الحجر: 9].
وثانيها: كونه عربياً والمراد أنه أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته كما قال: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
وثالثها: كونه غير ذي عوج والمراد براءته عن التناقض، كما قال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82] وأما قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} فالمعتزلة يتمسكون به في تعليل أحكام الله تعالى.
وفيه بحث آخر: وهو أنه تعالى قال في الآية الأولى: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} وقال في هذه الآية: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} والسبب فيه أن التذكر متقدم على الاتقاء، لأنه إذا تذكره وعرفه ووقف على فحواه وأحاط بمعناه، حصل الاتقاء والاحتراز، والله أعلم.


{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32)}
اعلم أنه تعالى لما بالغ في شرح وعيد الكفار أردفه بذكر مثل ما يدل على فساد مذهبهم وقبح طريقتهم فقال: {ضَرَبَ الله مَثَلاً} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: المتشاكسون المختلفون العسرون يقال شكس يشكس شكوساً وشكساً إذا عسر، وهو رجل شكس، أي عسر وتشاكس إذا تعاسر، قال الليث: التشاكس التنازع والاختلاف، ويقال الليل والنهار متشاكسان، أي أنهما متضادان إذا جاء أحدهما ذهب الآخر، وقوله فيه صلة شركاء كما تقول اشتركوا فيه.
المسألة الثانية: قرأ ابن كثير وأبو عمرو سالماً بالألف وكسر اللام يقال سلم فهو سالم والباقون سلماً بفتح السين واللام بغير الألف، ويقال أيضاً بفتح السين وكسرها مع سكون العين أما من قرأ سالماً فهو اسم الفاعل تقدير مسلم فهو سالم، وأما سائر القراءات فهي مصادر سلم والمعنى ذا سلامة، وقوله: {لِرَجُلٍ} أي ذا خلوص له من الشركة من قولهم: سلمت له الضيعة، وقرئ بالرفع على الابتداء أي وهناك رجل سالم لرجل.
المسألة الثالثة: تقدير الكلام: اضرب لقومك مثلاً وقل لهم ما يقولون في رجل من المماليك قد اشترك فيه شركاء بينهم اختلاف وتنازع، كل واحد منهم يدعي أنه عبده فهم يتجاذبونه في حوائجهم وهو متحير في أمره، فكلما أرضى أحدهم غضب الباقون، وإذا احتاج في مهم إليهم فكل واحد منهم يرده إلى الآخر، فهو يبقى متحيراً لا يعرف أيهم أولى بأن يطلب رضاه، وأيهم يعينه في حاجاته، فهو بهذا السبب في عذاب دائم وتعب مقيم، ورجل آخر له مخدوم واحد يخدمه على سبيل الإخلاص، وذلك المخدوم يعينه على مهماته، فأي هذين العبدين أحسن حالاً وأحمد شأناً، والمراد تمثيل حال من يثبت آلهة شتى، فإن أولئك الآلهة تكون متنازعة متغالبة، كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وقال: {وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} [المؤمنون: 91] فيبقى ذلك المشرك متحيراً ضالاً، لا يدري أي هؤلاء الآلهة يعبد وعلى ربوبية أيهم يعتمد، وممن يطلب رزقه، وممن يلتمس رفقه، فهمه شفاع، وقلبه أوزاع.
أما من لم يثبت إلا إلهاً واحداً فهو قائم بما كلفه عارف بما أرضاه وما أسخطه، فكان حال هذا أقرب إلى الصلاح من حال الأول، وهذا مثل ضرب في غاية الحسن في تقبيح الشرك وتحسين التوحيد، فإن قيل: هذا المثال لا ينطبق على عبادة الأصنام لأنها جمادات، فليس بينها منازعة ولا مشاكسة، قلنا إن عبدة الأصنام مختلفون منهم من يقول هذه الأصنام تماثيل الكواكب السبعة، فهم في الحقيقة إنما يعبدون الكواكب السبعة، ثم إن القوم يثبتون بين هذه الكواكب منازعة ومشاكسة، ألا ترى أنهم يقولون زحل هو النحس الأعظم، والمشتري هو السعد الأعظم، ومنهم من يقول هذه الأصنام تماثيل الأرواح الفلكية، والقائلون بهذا القول زعموا أن كل نوع من أنواع حوادث هذا العالم يتعلق بروح من الأرواح السماوية، وحينئذٍ يحصل بين تلك الأرواح منازعة ومشاكسة، وحينئذٍ يكون المثل مطابقاً، ومنهم من يقول هذه الأصنام تماثيل الأشخاص من العلماء والزهاد الذين مضوا، فهم يعبدون هذه التماثيل لتصير أولئك الأشخاص من العلماء والزهاد شفعاء لهم عند الله، والقائلون بهذا القول تزعم كل طائفة منهم أن المحق هو ذلك الرجل الذي هو على دينه، وأن من سواه مبطل، وعلى هذا التقدير أيضاً ينطبق المثال، فثبت أن هذا المثال مطابق للمقصود.
أما قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} فالتقدير هل يستويان صفة، فقوله: {مَثَلاً} نصب على التمييز، والمعنى هل تستوي صفتاهما وحالتاهما، وإنما اقتصر في التمييز على الواحد لبيان الجنس وقرئ مثلين، ثم قال: {الحمد للَّهِ} والمعنى أنه لما بطل القول بإثبات الشركاء والأنداد، وثبت أنه لا إله إلا هو الواحد الأحد الحق، ثبت أن الحمد له لا لغيره، ثم قال بعده: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون أن الحمد له لا لغيره، وأن المستحق للعبادة هو الله لا غيره، وقيل المراد أنه لما سبقت هذه الدلائل الظاهرة والبينات الباهرة، قال: الحمد لله على حصول هذه البيانات وظهور هذه البينات، وإن كان أكثر الخلق لم يعرفوها ولم يقفوا عليها، ولما تمم الله هذه البيانات قال: {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} والمراد أن هؤلاء الأقوام وإن لم يلتفتوا إلى هذه الدلائل القاهرة بسبب استيلاء الحرص والحسد عليهم في الدنيا، فلا تبال يا محمد بهذا فإنك ستموت وهم أيضاً سيموتون، ثم تحشرون يوم القيامة وتختصمون عند الله تعالى، والعادل الحق يحكم بينكم فيوصل إلى كل واحد ما هو حقه، وحينئذٍ يتميز المحق من المبطل، والصديق من الزنديق، فهذا هو المقصود من الآية، وقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} أي إنك وإياهم، وإن كنتم أحياء فإنك وإياهم في أعداد الموتى، لأن كل ما هو آت آت، ثم بين تعالى نوعاً آخر من قبائح أفعالهم، وهو أنهم يكذبون ويضمون إليه أنهم يكذبون القائل المحق.
أما أنهم يكذبون، فهو أنهم أثبتوا لله ولداً وشركاء.
وأما أنهم مصرون على تكذيب الصادقين، فلأنهم يكذبون محمداً صلى الله عليه وسلم بعد قيام الدلالة القاطعة على كونه صادقاً في ادعاء النبوة، ثم أردفه بالوعيد فقال: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى للكافرين} ومن الناس من تمسك بهذه الآية في تكفير المخالف من أهل القبلة، وذلك لأن المخالف في المسائل القطعية كلها يكون كاذباً في قوله، ويكون مكذباً للمذهب الذي هو الحق، فوجب دخوله تحت هذا الوعيد.


{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)}
اعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الكاذبين والمكذبين للصادقين ذكر عقيبه وعد الصادقين ووعد المصدقين، ليكون الوعد مقروناً بالوعيد، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: {والذى جَاء بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ} تقديره: والذي جاء بالصدق والذي صدق به، وفيه قولان الأول: أن المراد شخص واحد فالذي جاء بالصدق محمد، والذي صدق به هو أبو بكر، وهذا القول مروي عن علي بن أبي طالب عليه السلام وجماعة من المفسرين رضي الله عنهم والثاني: أن المراد منه كل من جاء بالصدق، فالذي جاء بالصدق الأنبياء، والذي صدق به الأتباع، واحتج القائلون بهذا القول بأن الذي جاء بالصدق جماعة وإلا لم يجز أن يقال: {أُوْلَئِكَ هُمُ المتقون}.
المسألة الثانية: أن الرسالة لا تتم إلا بأركان أربعة: المرسل والمرسل والرسالة والمرسل إليه، والمقصود من الإرسال إقدام المرسل إليه على القبول والتصديق، فأول شخص أتى بالتصديق هو الذي يتم به الإرسال، وسمعت بعض القاصين من الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «دعوا أبا بكر فإنه من تتمة النبوة».
واعلم أنا سواء قلنا المراد بالذي صدق به شخص معين، أو قلنا المراد منه كل من كان موصوفاً بهذه الصفة، فإن أبا بكر داخل فيه.
أما على التقدير الأول: فدخول أبي بكر فيه ظاهر، وذلك لأن هذا يتناول أسبق الناس إلى التصديق، وأجمعوا على أن الأسبق الأفضل إما أبو بكر وإما علي، وحمل هذا اللفظ على أبي بكر أولى، لأن علياً عليه السلام كان وقت البعثة صغيراً، فكان كالولد الصغير الذي يكون في البيت، ومعلوم أن إقدامه على التصديق لا يفيد مزيد قوة وشوكة.
أما أبو بكر فإنه كان رجلاً كبيراً في السن كبيراً في المنصب، فإقدامه على التصديق يفيد مزيد قوة وشوكة في الإسلام، فكان حمل هذا اللفظ إلى أبي بكر أولى.
وأما على التقدير الثاني: فهو أن يكون المراد كل من كان موصوفاً بهذه الصفة، وعلى هذا التقدير يكون أبو بكر داخلاً فيه.
المسألة الثالثة: قال صاحب الكشاف قرئ وصدق بالتخفيف أي صدق به الناس، ولم يكذبهم يعني أداه إليهم كما نزل عليه من غير تحريف، وقيل صار صادقاً به أي بسببه، لأن القرآن معجزة، والمعجزة تصديق من الحكيم الذي لا يفعل القبيح فيصير المدعي للرسالة صادقاً بسبب تلك المعجزة وقرئ وصدق.
واعلم أنه تعالى أثبت للذي جاء بالصدق وصدق به أحكاماً كثيرة.
فالحكم الأول: قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ المتقون} وتقريره أن التوحيد والشرك ضدان، وكلما كان أحد الضدين أشرف وأكمل كان الضد الثاني أخس وأرذل، ولما كان التوحيد أشرف الأسماء كان الشرك أخس الأشياء، والآتي بأحد الضدين يكون تاركاً للضد الثاني، فالآتي بالتوحيد الذي هو أفضل الأشياء يكون تاركاً للشرك الذي هو أخس الأشياء وأرذلها، فلهذا المعنى وصف المصدقين بكونهم متقين.
الحكم الثاني: للمصدقين قوله تعالى: {لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء المحسنين}، وهذا الوعد يدخل فيه كل ما يرغب المكلف فيه، فإن قيل لا شك أن الكمال محبوب لذاته مرغوب فيه لذاته، وأهل الجنة لا شك أنهم عقلاء فإذا شاهدوا الدرجات العالية التي هي للأنبياء وأكابر الأولياء عرفوا أنها خيرات عالية ودرجات كاملة، والعلم بالشيء من حيث إنه كمال، وخير يوجب الميل إليه والرغبة فيه، وإذا كان كذلك فهم يشاءون حصول تلك الدرجات لأنفسهم فوجب حصولها لهم بحكم هذه الآية، وأيضاً فإن لم يحصل لهم ذلك المراد كانوا في الغصة ووحشة القلب، وأجيب عنه بأن الله تعالى يزيل الحقد والحسد عن قلوب أهل الآخرة، وذلك يقتضي أن أحوالهم في الآخرة بخلاف أحوالهم في الدنيا، ومن الناس من تمسك بهذه الآية في أن المؤمنين يرون الله تعالى يوم القيامة، قالوا إن الذين يعتقدون أنهم يرون الله تعالى لا شك أنهم داخلون تحت قوله تعالى: {وَصَدَّقَ بِهِ} لأنهم صدقوا الأنبياء عليهم السلام، ثم إن ذلك الشخص يريد رؤية الله تعالى فوجب أن يحصل له ذلك لقوله تعالى: {لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ} فإن قالوا لا نسلم أن أهل الجنة يشاءون ذلك، قلنا هذا باطل لأن الرؤية أعظم وجوه التجلي وزوال الحجاب، ولا شك أنها حالة مطلوبة لكل أحد نظراً إلى هذا الاعتبار، بل لو ثبت بالدليل كون هذا المطلوب ممتنع الوجود لعينه فإنه يترك طلبه، لا لأجل عدم المقتضى للطلب، بل لقيام المانع وهو كونه ممتنعاً في نفسه، فثبت أن هذه الشبهة قائمة والنص يقتضي حصول كل ما أرادوه وشاءوه فوجب حصولها.
واعلم أن قوله: {عِندَ رَبّهِمْ} لا يفيد العندية بمعنى الجهة والمكان بل بمعنى الصمدية والإخلاص كما في قوله تعالى: {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} [القمر: 55] واعلم أن المعتزلة تمسكوا بقوله: {وذلك جَزَاء المحسنين} على أن هذا الأجر مستحق لهم على إحسانهم في العبادة.
الحكم الثالث: قوله تعالى: {لِيُكَفّرَ الله عَنْهُمْ أَسْوَأَ الذي عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فقوله: {لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ} يدل على حصول الثواب على أكمل الوجوه وقوله: {لِيُكَفّرَ الله عَنْهُمْ} يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه، فقيل المراد أنهم إذا صدقوا الأنبياء عليهم فيما أوتوا فإن الله يكفر عنهم أسوأ أعمالهم وهو الكفر السابق على ذلك الإيمان، ويوصل إليهم أحسن أنواع الثواب، وقال مقاتل يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم ولا يجزيهم بالمساوئ، واعلم أن مقاتلاً كان شيخ المرجئة وهم الذين يقولون لا يضر شيء من المعاصي مع الإيمان، كما لا ينفع شيء من الطاعات مع الكفر، واحتج بهذه الآية فقال: إنها تدل على أن من صدق الأنبياء والرسل فإنه تعالى يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا، ولا جوز حمل هذا الأسوأ على الكفر السابق، لأن الظاهر من الآية يدل على أن التكفير إنما حصل في حال ما وصفهم الله بالتقوى وهو التقوى من الشرك، وإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد منه الكبائر التي يأتي بها بعد الإيمان، فتكون هذه الآية تنصيصاً على أنه تعالى يكفر عنهم بعد إيمانهم أسوأ ما يأتون به وذلك هو الكبائر.
الحكم الرابع: أنه جرت العادة أن المبطلين يخوفون المحقين بالتخويفات الكثيرة، فحسم الله مادة هذه الشبهة بقوله تعالى: {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} وذكره بلفظ الاستفهام والمراد تقرير ذلك في النفوس والأمر كذلك، لأنه ثبت أنه عالم بجميع المعلومات قادر على كل الممكنات غني عن كل الحاجات فهو تعالى عالم حاجات العباد وقادر على دفعها وإبدالها بالخيرات والراحات، وهو ليس بخيلاً ولا محتاجاً حتى يمنعه بخله وحاجته عن إعطاء ذلك المراد، وإذا ثبت هذا كان الظاهر أنه سبحانه يدفع الآفات ويزيل البليات ويوصل إليه كل المرادات، فلهذا قال: {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} ولما ذكر الله المقدمة رتب عليها النتيجة المطلوبة فقال: {وَيُخَوّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ} يعني لما ثبت أن الله كاف عبده كان التخويف بغير الله عبثاً وباطلاً، قرأ أكثر القراء عبده بلفظ الواحد وهو اختيار أبي عبيدة لأنه قال له: {وَيُخَوّفُونَكَ} روي أن قريشاً قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقرأ جماعة: {عِبَادِهِ} بلفظ الجميع قيل المراد بالعباد الأنبياء فإن نوحاً كفاه الغرق، وإبراهيم النار، ويونس بالإنجاء مما وقع له، فهو تعالى كافيك يا محمد كما كفى هؤلاء الرسل قبلك، وقيل أمم الأنبياء قصدوهم بالسوء لقوله تعالى: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ} [غافر: 5] وكفاهم الله شر من عاداهم.
واعلم أنه تعالى لما أطنب في شرح الوعيد والوعد والترهيب والترغيب ختم الكلام بخاتمة هي الفصل الحق فقال: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلّ} يعني هذا الفضل لا ينفع والبينات إلا إذا خص الله العبد بالهداية والتوفيق وقوله: {أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ ذِى انتقام} تهديد للكفار.
واعلم أن أصحابنا يتمسكون في مسألة خلق الأعمال وإرادة الكائنات بقوله: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلّ} والمباحث فيه من الجانبين معلومة والمعتزلة يتمسكون على صحة مذهبهم في هاتين المسألتين بقوله: {أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ ذِى انتقام} ولو كان الخالق للكفر فيهم هو الله لكان الانتقام والتهديد غير لائق به.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7